15‏/10‏/2011

وتلك صفورية قبل أن يغادرها النواح



قبل ثلاث سنوات، خرج الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 48 في مسيرتهم السنوية في ذكرى النكبة، مشاة إلى قرية صفورية المهجرة. هذه القرية التي لم يتبق منها سوى نبع صغير وأكوام من حجارة بيوتها المهدمة، وغطتها الأشجار الحرجية وبلدة "تسيبوري" الإسرائيلية، وجد فيها الفلسطينيون عام 2008 مساحةً صغيرة لكي يحييوا ذكرى النكبة، أو، هو طقس يشبه "العودة". "عاد" كثيرون تحت هذا الشعار/ الاستعارة، إلا أن ابنها، "الولد الحافي"، الشاعر طه محمد علي، ظل يصارع الهرم والمرض في بيته، ولم يتمكن حتى من الحضور والجلوس على المنصة لإلقاء قصيدة على أرض قريته المهجرة.
ثمة شعراء "لاجئون" عاشوا النكبة والتهجير وكتبوا ما ظلّ فيهم من قراهم المهجرة أو ما صنعته مخيلتهم عنها؛ فتراوح شعرهم بين سرد الرواية/ الذاكرة الفعلية وبين الاستعانة بالمخيلة لإكمال مشهد شخصيّ وضبابيّ منقوص، لدى أولئك الذين هُجروا من قراهم أطفالاً. طه محمد علي هُجر من قرية صفورية وقد قارب على العشرين عامًا من العمر، حاملا ذاكرةً حافلة بالتفاصيل والأصوات والمشاهد، ولكنها في ذات الوقت محفوفة بالحزن والفقد والغضب. وليس هنالك من شك بأنه وظّف هذه الذاكرة الناضجة توظيفًا "صوريًا" و"موضوعيًا" في كتابته. يضاف إلى هذا الحظ/ القدر موهبة فذّة في نظرته إلى الشعر وصياغة القصيدة، وذكاء فتيّ في انفتاح الأخيرة على شكل ولغة حديثة وبسيطة وغير متكلّفة؛ هي لغة حياته اليومية.
إن هذا ما يجعل وضع الشاعر على لائحة أهم شعراء القرن العشرين في موسوعات الشعر الحديث ليس بالشيء المفاجئ. والمفارقة الملحوظة بين تميزه والشهرة التي حظي بها تُعزى إلى نشره المتأخر والمنحصر في فلسطين؛ في مدن كحيفا وأم الفحم وغيرها، وبهذا كان معروفًا على نطاق ضيق في العالم العربي. ولكن هذه "الشهرة" المنقوصة لم يسببها النشر أو التوزيع ضيق النطاق فحسب، إنما انشغال الشاعر بنفسه وصوته، وبغرفة مكتبته المغبرَّة التي لم يطأها منذ وقت طويل بسبب مرضه وهرمه. وقد يكون الإنشغال الأكبر، والذي لم ينقطع حتى بانقطاعه عن الكتابة والقراءة، هو من نصيب "صفورية"- قريته المهجرة. هذا ما كان واضحًا لزائريه في الأشهر الأخيرة، وأنا منهم، أولئك الذين لم يسمع حديثهم ولم ينبس أمامهم بكلمة إلا حين جاءوا على ذكر قريته، خارجًا من غيبوبته، ناهضًا من غرقه بأسئلة الحياة والموت، قائلاً: "مالها صفورية؟" الآن، وبعد أن فارق حياته وقريته وشعره وهواجسه؛ سيظل حلم العودة إلى القرية حيّا في أبنائها الأحياء، ولكن من سيسأل، غيره، غير "نوَاح" صفورية، سؤال الولد عن فناء البيت والجارة وسؤال الفلاح عن البيادر والشمس في قصيدةٍ حديثه وينقلها إلى العالم؟
عن موقع قديتا.نت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق