31‏/10‏/2010

بيان لجنة تحكيم مسابقة مؤسسة عبد المحسن القطان للكاتب الشاب في حقل الشعر



في حقل الشعر، ذكرت لجنة تحكيم المسابقة التي ضمت في عضويتها كلاً من الناقد والشاعر د. خالد الجبر (الأردن)، والشاعر والمترجم فادي جودة (فلسطين/الولايات المتحدة الأمريكية)، والناقد د. لطيف زيتوني (مصر)، والشاعر د. مريد البرغوثي (فلسطين/مصر) في بيانها الختامي الذي تلاه الفنان أميل عشراوي أنها تلقت إحدى وعشرين مخطوطة شعرية قدمها كتاب فلسطينيون شباب تتراوح أعمارهم بين 22 و30 عاماً، من مختلف أنحاء فلسطين، الأمر الذي يمثّل إقبالاً لا بأس به على كتابة الشّعر لدى الجيل الشّابّ في فلسطين.

وذكر البيان أنه "في الوقت الذي تود فيه اللجنة الإشادة بما بذله المشاركون من جهد في إنجاز نصوصهم التي تقدموا بها إلى هذه المسابقة، فإنها تود الإشارة إلى أنها تعاملت مع كل النصوص من موقع المتقبّل تماماً لكل صيغ كتابة القصيدة العربية. وكانت فنّية العمل، بِغَضِّ النَّظَرِ عن مصدر موسيقاه، هي الأساس. كما أن اللجنة لم تتساهل في تقويم النصوص انطلاقاً من كونها للشباب، بل شملت تقارير أعضاء اللجنة تعقيبات صارمة لا تخلو من قسوة على مستويات عدة".

وأضاف البيان: في هذا السياق، تود اللجنة تقديم الملاحظات التالية: شاب الكثير من المخطوطات جهل بقواعد اللغة العربية، وبتراكيب الجملة العربية، إضافة إلى أخطاء طباعيّة ولغويّة وإملائيّة، وعليه توصي اللجنة الكتاب المشاركين بعرض أعمالهم على مدققين لغويين قبل التقدم بها إلى المسابقة؛ يتفاوت المشاركون في مسابقة الشعر في الموهبة، والمقدرة على التعبير، والطاقة على التخيل، والسلاسة في الأسلوب، والرهافة في تذوق الصورة قبل تبنيها في النص. فجاءت بعض المخطوطات شديدة الضعف، وتخلط ما بين فن الشعر والخواطر، بعيداً عن الشاعرية، أما الأغلب فمن المستوى المتوسط. لكن هناك عدداً من المجموعات الواعدة، التي تحمل نفساً شعرياً مؤكداً، ويملك أصحابها الموهبة والمقدرة على التعبير عنها؛ تنوعت نصوص المجموعاتِ الشّعريّة المشاركة بين فنون الشّعر كلّها: قصيدة الشّطرين؛ قصيدة التفعيلة؛ قصيدة النّثر. وهذا التنوُّع في الفنون الشّعريّة، وإقبال الشّباب على الكتابة فيها، كلّها أيضاً، مؤشّران إيجابيّان على أنّ السّاحة الثقافية الفلسطينيّة ساحةٌ واعية، وهي ديمقراطيّة (بمفهوم من المفاهيم)، ولا تجسِّدُ تيّاراً واحداً، ولا تُلغي أو تقصي أو تهمّش، من شاءَ فليكتُب، وليكتُب ما يشاء؛ تمثل نصوص بعض المجموعات الشّعرية المشاركة النّقيضَين في الفكر: بعضُها يمثّل التّيّار التقليديّ، وبعضها الآخر يمثّل التيّار الحداثيّ، وهذا ظاهرٌ من بعض النّصوص التقليديّة الوعظيّة المنظومة نظماً، ومن نصوص أخرى تمارسُ الكتابةَ المضادَّة؛ وهذه ظاهرةٌ أخرى إيجابيّة تُحسبُ للسّاحة الثقافية والأدبية والفكرية الفلسطينيّة.

جائزة الشعر لـ أسماء عزايزةوأعلن البيان أن جائزة الكاتب الشاب في حقل الشعر لهذا العام، تذهب إلى المجموعة الشعرية "ليوا" لأسماء عزايزة (دبورية/ الناصرة)، مع توصية بالنشر، وذلك لأنها مخطوطة مبدعة تنمُّ عن موهبة يمكن أن تتضح أكثر وأكثر في كتابات قادمة، وتقدم صوتاً أنثوياً فيه فرادة في شعرنا العربي والفلسطيني، بعيداً عن فحولة القصيدة وذكوريتها، هذا الانفتاح والتعاطي مع التراث الأدبي العالمي، واختلاط الأنا بحبيبها وعدوها في آن، وهذا الخيال اللغوي والعمق النفسي الذي يحول المثل الشعبي إلى فلسفة وحكمة أبدية، حيث تلامس قصائدها القصيرة، الغموض أحياناً، لكنها لا تنغلق على الفهم في صور غنية جداً، ولغة شديدة العصرية متماسكة وسليمة. إنّ قصائدَ هذه المخطوطة مُتقَنةُ اللغة والإيقاع الدّاخليّ والصّورة، فهي موجزة وكثيفة وتعتني بالتفاصيل الصّغيرة.

وأشادت لجنة التحكيم بقوة مع التوصية بنشر مخطوطة أقل مجازاً لـ داليا طه (رام الله)، وذلك لأنها "بين المجاز وبين انكسار المجاز" تقف هذه الشاعرة الرقيقة وتطلق سراح المنطق والعقلاني بهدوء في سماء الحس، وأحياناً تصيب الشطح والشتات الشعري الرائع. وهذه المخطوطة التي هي تكريم وإهداء لمحمود درويش بصورة بلاغية إبداعية حقيقة، لا تعاني من التقليد، بل لها صوتها الخاص وكيانها الثابت، وتنبئ عن حضور أنثوي مهم، يعلمنا ما ينقص آذاننا من استماع، وكاتبتها تتمتّع بتجربة جيّدة ظاهرة في تشكيل قصيدتِها: لُغةً وإيقاعاً وصُورةً، وهي إلى ذلكَ كلّه تتميّز بمتانة اللغة وجمال التّراكيب. ولو أنّ الكاتبة خلّت قصائدَها من بعض الهناتِ في اللغة، ولو أنّها جعلت نصوصَها أكثرَ كثافةً، لكانت هذه المخطوطة ممّا يُنظرُ إليه بعينٍ أُخرى".

ونوهت بالمخطوطة الشعرية حجاب لـ أنس أبو رحمة (بلعين/رام الله)، وبالمخطوطة الشعرية خربشات على جدار الذكريات لـ علي أبو عرّة (رام الله).



11‏/10‏/2010

صوتُ النِنْييرا


هذا الصوتُ الحادُّ كشفرةٍ

القادم من النِنْييرا[1]

من مرَّره على آذاننا؟


العم يِرجي[2]

يجلس على قارعةِ طريقٍ

في براغ.

هو لا يعلم أنه صانع شفراتٍ أيضًا

وأنه يراكم لحمًا بشريًا جديدًا

فوق أجساد الشيوعيين.


السيّاح المبتسمون

يلتقطون الصور للعم يِرجي

ويمضون إلى المتاحف

بينما تتقطَّعُ آذانهم

وتسقط في حضنه.



[1] الننييرا- Ninera- آلة موسيقية وترية غربية، صوتها قريب من صوت الكمان.

[2] عازف ننييرا في شوارع براغ القديمة.

9‏/8‏/2010

قبل دقيقتين مات محمود درويش


هل قلتم الذكرى الثانية لرحيله؟ الذكرى- التذكّر، تذكّر ماض! إذن، لِمَ يمشي هذا الشاعر في حاضرنا؟ رحيله- غيابه، فقده! إذن، لم يصدح صوته في آذاننا وتقتحمنا قصائده إلى الآن؟
أمامكم نص سجين، لم أشأ/ أستطع أن أكتب عن "رحيله" خلال هذين العامين، كان مشهد نواح وبكاء المثقفين مرتفع النبرة كافيًا لردعي عن ذلك. نص حبيس، وُلد لحظتئذٍ ولكنه يُكتب الآن، وكأن درويش مات قبل دقيقتين، أو أقل:
هناك في الجنوب الألماني، في مدينة ريتشارد فاغنر، "بايرويت"، الصغيرة الصامتة؛ حيث لا جنازة، لا تشييع، لا أفواه مفتوحة، لا أحداق مشرّعة على الملح والماء، لا هواتف سريعة من الأصدقاء، لا شاشات بأخبار عاجلة، ولا حتى انترنت لتتبع الأخبار والصور وفيديوهات الرثاء الحمقاء التي انهدلت على صفحات الشبكة.
وحدي، أعيد قراءة ملحمة جلجامش، في غرفة أرضية داكنة ملمومة تُفضي إلى ميدان مرصوف وبعض شجرات الظل العجوزة منحنية الظهور. بعد أن غادر الأصدقاء إلى نزهتهم، رُميت في هذه الغرفة الصامتة وبايرويت الصامتة والخبر الصامت وموته الصامت.
اشتد المساء واشتد معه هذا الصمت المدوي والممتد بلا نهاية أو حافة، حافة أصطدم بها لأدرك أن ذاك كان مجرد شائعة، أو أنني على سريري في حيفا أحلم بأن درويش مات في بايرويت ودُفن إلى جانب فاغنر في حديقته الواسعة والأنيقة. الصمت يزحف من شقوق النافذة، وطُرق جلجامش البحرية تتلوّى في رأسي، بينما يعرج إليها صوت درويش، المسرحي تارةً؛ وهو ينشد أمامي قصيدته الأخيرة في قصر رام الله، والشخصي تارةً، ذاك الخفيض المطوي بعناية وذوق شاعر، وهو يتحدث عن لقاء مرتقب مع حيفا في مكتبه في "السكاكيني"، أو عن عاطفة قرّائه في شرفة تطل على البحر بعد أمسيته الشعرية في تموز 2007. لحظات عُجِنت فيها يقظة "جاهلة" لا تعرف من أين نتأ هذا "الخبر"؟ إليّ، وأنا لم يصلني في هذه المدينة النائية أيّ شيء يمهّد لهذا الرحيل، بنعاس يسحبني إلى أسفل، يحاول بنشاط إقناعي بالنوم وبأن نور اليوم التالي هو الذي سيصدِّق الخبر أو يكذِّبه! هي ذاتها اللحظات التي عُجن فيها جسد جلجامش الفضوليّ اللاهث وراء الخلود، بصوت درويش الذاهب نحوه، أيضًا.
أنسحب من هذه العجينة إلى الخارج، إلى الميدان المرصوف.. بايرويت مرةً أخرى، حيث لا جنازة، لا قبر، لا أخبار عاجلة، لا "بكّائين" ولا "نوّاحين" على تابوته. لا شيء من هذا النَدب العلني سوى بكاء بايرويت الصامت على قبر فاغنر وعلى حفرة فارغة، إلى جانبه.
جلجامش، في طريق العودة، شاهد السور العظيم الذي بناه حول "أورك"، وأدرك أن هذا الذي سيخلّد اسمه. ودرويش، خرج من بايرويت، إلى فلسطين، هناك، وفي كل الجهات والطرق المؤدية إليها، أيضًا، سور شاهق شيّدته القصيدة.


نُشر في ملحق أعد في "ذكرى رحيله الثانية" في صحيفة القدس العربي.

28‏/7‏/2010

أصوات شعرية من فلسطين (مقدمة الجزء الأول)



نصر جميل شعث

هذه مقدمة الجزء الأول من ملف أعدّه عن أصوات شعرية من فلسطين، والمفترض أن ينشر في عدد قادم من أعداد مجلة "نثر" العراقية السورية.

يتألّف هذا الجزء من البرنامج الوجداني من عشرة أصوات شعرية فلسطينية تنتمي إلى تربة الأرض المحفوظة كاملةً في التمني؛ لئلا تعلو تربة على تربة في الوطن المسروق، وإن كانت تفاحة "غزّة" بارزة في حنجرة آدم.

واختياري لهذه الأسماء لم يكن وليد مصادفة، مع ذلك هو لا يأتي من جهة تفضيلٍ ضيّق أبخلُ به على أصوات كثيرة تقع في فم المشهد الشعري الجديد، ولا تتواني عن تفعيل اقتراحاتها بخطوين داخل الذات وبخطوة ثالثة تعيد الذات إلى الوسط.

فعلى رغم أنه لم يكن، منذ القدم، ثمة ما يبشّر بنبأ المصالحة أو التوازن بين الداخل والخارج؛ يظلّ هنا قول حيّ أنّ وساطة الشعر كبيرة وعميقة لدرجة أنها تستوعب كلّ متناقضات الأنا والآخر، الوطن والمنفى، النهر والصحراء.. حيث الشعر هبة ميتافيزيقية و القضية إما أنها تميمةٌ أو حظّ عاشق تتخطفه الخسارة.

ومن هنا، يجوز لي أن أعترف بتلصّصي على الحبّ بأولوياته السابقة والأولى في الأصوات، ولكن بواسع معانيه في هذا القصائد المختارة. كذلك قراءتي تيمة الخصومة مع صورة الأنا بوصفها بيت الحبيب، وانعكاس الأنا الموازي وساحة الآخر. فها هي الشاعرة كوثر أبو هاني في قصيدة لها بعنوان "حالات مؤقتة لابدّ منها" تقول:

"أحيانًا أكرهني حتّى أحنّ إليّ وأتصالح مع الحبّ..." .

وعند الشاعرة أسماء عزايزة نرى تعرّض الصورة إلى عقابٍ، بنبرة "قلب ساخط" لا تني تولّد الحُلُمَ من الخراب، في لحظة منفعلة داخل مدار الحبّ في وجه من وجوه معانيه، ربما هو الوجع الذي يتحوّل نبرةً حادّة، مثلاً، لدى الشاعرة عزايزة في قصيدتها هذه المسماة "لا أحد، وصورتك":

لا أحد سيلتفت إليك إن صرختَ
بأعلى صوتك: "مرحى بالفصول المنتهية
مرحى بي أنا المتجدّد وأنا أضربُ رأس الماضي وأغمّيه".
أو حتى إن قلت: "سأتنازل عن دور البطل حتى لا تلتهمني النهاية،
وإن أجبرتُ على التفرج، سأقتل الراوي"!


إذًا، ثمّة إيقاع كبير في تدرجه وتنوعه؛ مشبعٌ بالحبّ وبالخصومة الواضحة في نصوص الشاعرات أكثر من الشعراء والذاهبة في تعرية وإيلام الأنا الموازي لدورة الأمل في الداخل والخارج معًا؛ الأمل في ولادة البطل ( الأنا) الخاصّ والوطني. ففي إبدال الشاهد السابق "الأنا" بـ "الآخر" المخاطب كغائب؛ نرى عَزْلاً لبهاء الصورة التي ترنّ في المجموع، حيث يقرّر المقطع السابق عقوبة لصاحب الصورة بإهمال صدى نرجسيته؛ وذلك إدراكًا لغاية التطهّر بإيقاع يسيل على ظلال حدائق كانت هناك.

وإذًا، تقدّم هذه المحاولة دعوة جديدة من أجل القراءة والإصغاء إلى إيقاعات الكتابات الشعرية الطازجة لدى شاعرات وشعراء كثيرًا ما أقارب قراءتي لهن ولهم بمخيلة شعرية أصوّرها بوضع إصبع الشاهد على اسم الوطن وإخفائه بظلّ التصويبة، لا إخفائه بالإصبع الذي هو من لحم ودم فائضين كإشارات في دورة الأسى التي تشحن ساعة الأمل برمل الصحراء في المقاربة الفلسطينية والعراقية التي تفضي بنا إلى هذه المفارقة المقوّاة بالجدل والفاعلة في مدار الخصومة البارزة عند الشاعرة أسماء عزايزة بين عنوان قصيدة (سيل) و (صحراء) المتن التي انتهت، مجازًا، لأنها أفرغت في الرأس، التي امتلأت بها حقيقةً، بفعل جرّ القصّاصين أكياس الرمال من الأفق إلى الرأس:

انتهت الصحراء؛
القصّاصون جرّوا أكياس الرمال وأفرغوها في رأسي.
أرشدوا الريح إليّ كي يلقّح الصبارُ أصابعي.
انتهت الصحراء وسالت...


وعند بشير شلش هذا وصفٌ آخر للعبء في "الأرض المؤقتة":

رأينا قمرَ الحصادِ مَسروقًا في متاعِ البدو الذينَ قايضوا السماءَ بالخيامِ
والصحراءَ بردهات الاسمنت وحملوا أيامهم بأكياسِ النومِ .


وأيضًا، سنقرأ في أثر الشاعر خالد جمعة شيئًا من مدار أو دِوار العشق داخل دورة الأرض في قصيدة "كيف تحتملُ روحكِ كلَّ هذا الجمال؟"، غير المنفصل عن دورة الأسى و ما تنتجه هذه الدورة من خربطة محتومة في أرض (مكان) و مواعيد (زمان) العاشق الذي يربط أحوال المرأة بالأرض من دون استخدام أي من أدوات التعاقب والترتيب. ففي الشاهد التالي تغيب "الفـــاء" التي تفيد الجمع مع سرعة الترتيب، ترتيب السبب والنتيجة:

تبكين
تخربِطُ الأرضُ دورَتَها، وتنسى الفصولُ مواعيدَها، الأشجارُ تفقدُ عصافيرَ ذاكِرَتِها، فيما الغيمُ يلملمُ قُطْنَهُ في علبةِ الريح، ويقفُ دمعكِ بين السماءِ والأمنيات.


ويختلف الأمر، في صورة ما، عند الشاعرة فاتنة الغُـرّه، في قصيدتها الطويلة "رقّ النوم" التي تصدر عن مخالطة فريدة بين الرؤيا وشبق اللحظة الجارفة، ولكن المنطوية في الوقت ذاته على تكوين رائع تعتريه نبرة تهّجد محفوفة بلذاذة تفعيل الأشياء في مدار كتابة تفتح باب العلاقة لتزاوج الرؤيا، بما هي حلُم بطيء العمل، مع نشوة التدفق من اللحظة الأولى، حيث دهشة الاصطدام بشيء سائل:

كانت الأرضُ تتمّ دورتها الأولى حينَ اصطَدَمَتْ ببركَةٍ راكِدَةٍ فانتفَضَ منها كتابُ النَّومِ، وكانَ أن جاءَ فيه..
فيما يَرى النَّائِمُ:
كانَت الوردَةُ تحبو باتجاه السَّماءِ رافِعةً تيجانها له تخْلع أرديتها واحِدًا تلو الآخر. تتلو صلاتَها للربيعِ. تسْتحمُّ بوهجِ اللحظَةِ الأولى.. وكانَ الشجَرُ حولها يسجد..
وكانَ ذلكَ شيئًا عظيما
(..............)
فيما يرى النائِمُ:
كَانَ الحلمُ يطفو على الملاءَةِ شلالَ حليْبٍ طَازجٍ بِرائِحَةٍ طَازجَةٍ ووَقتٍ طازجٍ تنبُتُ مِنْ خِلالِهِ أعْشَاشٌ مألوفَةٌ.. وكانت النتيجَةُ.. زهْرةً بيضَاءَ فَقَطْ.
وَكانَ ذلِكَ شيئًا عظيما.


وهكذا يكمن ويكبر السرّ تحت ظلال الإشارات، داخل دورة الشعر المضاء بروح كليّة لِـطيفها انعكاس على شفافيةٍ فضاحةٍ تحفظ، بدورها، الأثر؛ لأنها طبقة مالحة بين الوطن وظلّ الشاهد الذي يقدم شهادة غير مجروحة بإصبع مجروحة! الوطن الذي لم يخسره الشعراء ليربحوا الشعرَ؛ بل هم خسروا كرامة الوطن المأمول جدلاً في استعادتها، ونجدها، الآن، في شعر أبنائه!(أسماء عزايزة من حيفا - بشير شلش من عرّابة، قضاء الجليل- خالد جمعة من غزة - رائد وحش من فلسطيني دمشق - رجاء غانم من الرملة، دالية طه من رام الله - فاتنة الغرة من غزة - كوثر أبو هاني من غزة - ناصر رباح من غزة - ووليد الشيخ من رام الله)

على أنّ ما سيكرر ملامسته القارئ في أصوات الشاعرات والشعراء، هنا، هو تنوّع عمل القصائد، دائمًا، على جماليات فكّ ارتباط الشعر بالحنجرة وبالبهاء الذي ورّط وجوها وذوات داخل أصياف وصحارى جاء خروج جيل لاحق منها بوعي ومسؤولية إلى عبارة تفتح بلاغة الألم على إمكانيات فنّية تدشّن وتراكم غيابَ الصوت والضوء الباهظ، تراكم الغيابَ في حضور المجاز المتحالف مع أشياء في تجربة المكان وتجربة العيش لدى ذوات تعمقت أكثر في لحظاتها التي تستوعب جدلَ الحياة وتخلق رؤاها أبعد من سطح السؤال المباشر! حيث الشعر والوطن كانا وسيظلان يشكلان خطورتين على الشاعر/ة العاشقـ/ـة:

خطورة شرذمة القضية و تصفية اللازورد من فحواها، في عالم يُسرّب خياناته إلى الإنسانية في خطابات ذات واقعية سياسية تزوّق المشهد بكلام آسفٍ، وفي الوقت ذاته تعطّل منطق الحقائق؛ لتفعيل فروض براغماتية في سبيل تأكيدها كقياسات للتعامل مع وقائع جديدة، أي لا تقليدية: كالحرب التي تتقدّمُ السلامَ ولا تصنعه مثلما كانت ترعى ذلك في أدبيات القوة، إذا جاز لنا ذلك.

داخل هذا الفرن الجديد كانت تنتابُ الأشياءَ خطورةٌ ثانية استغلت مراحل لاهبة في مسلسل الوطن؛ استغلته كغطاء لإعدام أشياء طازجة هي كيانات أنطولوجية(الحجر يرمى نفسه هنا مثلاً)؛ إعدامها بذريعة التزام آدم وإلزامه بالصراخ حتى يرى الآخرون رقصة التفاحة. مع وجوب التذكير هنا، أن عدم وجود تفاحة في كل حنجرة بشرية راجع إلى تقدير ميتافيزيقي ما، لا ينفي عن كلّ المحرومين حقيقة أنهم يرقصون ألمًا في حدائق مسروقة أو مهجورة داهما نسيانُ مواعيد العشّاق، وداهما الخلط بين الشجر والبزات العسكرية، وجلس على مقاعدها الحجرية الغياب. وهكذا كادت الخطورة أن تهدّد الشعر بالموت في زمن الخطيئة، لولا قدرة سلَفت تمثلت في إفلات رموز الشعر الفلسطيني الكبيرة بصورة أو بأخرى؛ قدرة كان لها أن تتقوّى في تجارب لم تقرأها الرموز، ولا تـــُـقرأ بعمق اللحظةِ، الآن.


اللوحة: الفنان ماجد شلا، غزة

27‏/6‏/2010

فاغنر وجدتي




بايرويت

تنتحب على فراقكَ كل ليلة،

أهلها يقطِّرون دموعها

في راحاتهم

ويسقون قبركَ

حتى تنمو مفاتيح البيانو النائمة.


فاغنر

العشب صار ملحًا

وانتفخت الجلود في الراحات.

كانوا يقولون لنا أنكم لستم مثلنا،

صدقناهم

ورمينا منديل أم كلثوم

من الطائرة قبل وصولنا.


فاغنر

بعد قليل، ستكبر المفاتيح

وتعزفُ "Götterdämmerung"*،

ذلك حين تموت جدتي

في سريرها الواسع،

قرب الملح والجلود المنتفخة،

وهي تروي لنا، بذاكرتها المتقطِّعة،

حكاية "السِّت" التي قتلت جَمَلها لتنقذ حبيبها.

وسيأتي أهل البلدة؛

يقطِّرون الدموع في راحاتهم،

ويسقون قبرها،

حتى تنمو ظفائرٌ في شعر "الست لْوز"

ويعود الدم ليسري في جسد جَمَلها.



*عنوان الأوبرا الأخيرة في مجموعة مكونة من أربع أعمال أوبرالية بعنوان Der Ring des Nibelungen، والكلمة هي الترجمة الجرمانية لمصطلح من الميثولوجيا النورسية، والذي يرمز إلى حرب الآلهة التي تجلب النهاية للعالم.


الصورة: بيت ريتشارد فاغنر في مدينة بايرويت في الجنوب الألماني، أيلول 2008


كوابيس




أصدقائي مجرمو أحلام

هناك، يتدرّبون على رَمي

قطعٍ آدمية

في وجه العالم.




اللوحة: من معرض "حدود الشمس" للفنان جاد سلمان

7‏/3‏/2010

ريح



أجوّف سروةً

وأقف مكانها في الريح.


بعد قليل، سيصلني أنّ قطارك تأخر

بسبب سرو هوى على السكّة!




* اللوحة: "بدون عنوان"- منذر جوابرة