9‏/8‏/2010

قبل دقيقتين مات محمود درويش


هل قلتم الذكرى الثانية لرحيله؟ الذكرى- التذكّر، تذكّر ماض! إذن، لِمَ يمشي هذا الشاعر في حاضرنا؟ رحيله- غيابه، فقده! إذن، لم يصدح صوته في آذاننا وتقتحمنا قصائده إلى الآن؟
أمامكم نص سجين، لم أشأ/ أستطع أن أكتب عن "رحيله" خلال هذين العامين، كان مشهد نواح وبكاء المثقفين مرتفع النبرة كافيًا لردعي عن ذلك. نص حبيس، وُلد لحظتئذٍ ولكنه يُكتب الآن، وكأن درويش مات قبل دقيقتين، أو أقل:
هناك في الجنوب الألماني، في مدينة ريتشارد فاغنر، "بايرويت"، الصغيرة الصامتة؛ حيث لا جنازة، لا تشييع، لا أفواه مفتوحة، لا أحداق مشرّعة على الملح والماء، لا هواتف سريعة من الأصدقاء، لا شاشات بأخبار عاجلة، ولا حتى انترنت لتتبع الأخبار والصور وفيديوهات الرثاء الحمقاء التي انهدلت على صفحات الشبكة.
وحدي، أعيد قراءة ملحمة جلجامش، في غرفة أرضية داكنة ملمومة تُفضي إلى ميدان مرصوف وبعض شجرات الظل العجوزة منحنية الظهور. بعد أن غادر الأصدقاء إلى نزهتهم، رُميت في هذه الغرفة الصامتة وبايرويت الصامتة والخبر الصامت وموته الصامت.
اشتد المساء واشتد معه هذا الصمت المدوي والممتد بلا نهاية أو حافة، حافة أصطدم بها لأدرك أن ذاك كان مجرد شائعة، أو أنني على سريري في حيفا أحلم بأن درويش مات في بايرويت ودُفن إلى جانب فاغنر في حديقته الواسعة والأنيقة. الصمت يزحف من شقوق النافذة، وطُرق جلجامش البحرية تتلوّى في رأسي، بينما يعرج إليها صوت درويش، المسرحي تارةً؛ وهو ينشد أمامي قصيدته الأخيرة في قصر رام الله، والشخصي تارةً، ذاك الخفيض المطوي بعناية وذوق شاعر، وهو يتحدث عن لقاء مرتقب مع حيفا في مكتبه في "السكاكيني"، أو عن عاطفة قرّائه في شرفة تطل على البحر بعد أمسيته الشعرية في تموز 2007. لحظات عُجِنت فيها يقظة "جاهلة" لا تعرف من أين نتأ هذا "الخبر"؟ إليّ، وأنا لم يصلني في هذه المدينة النائية أيّ شيء يمهّد لهذا الرحيل، بنعاس يسحبني إلى أسفل، يحاول بنشاط إقناعي بالنوم وبأن نور اليوم التالي هو الذي سيصدِّق الخبر أو يكذِّبه! هي ذاتها اللحظات التي عُجن فيها جسد جلجامش الفضوليّ اللاهث وراء الخلود، بصوت درويش الذاهب نحوه، أيضًا.
أنسحب من هذه العجينة إلى الخارج، إلى الميدان المرصوف.. بايرويت مرةً أخرى، حيث لا جنازة، لا قبر، لا أخبار عاجلة، لا "بكّائين" ولا "نوّاحين" على تابوته. لا شيء من هذا النَدب العلني سوى بكاء بايرويت الصامت على قبر فاغنر وعلى حفرة فارغة، إلى جانبه.
جلجامش، في طريق العودة، شاهد السور العظيم الذي بناه حول "أورك"، وأدرك أن هذا الذي سيخلّد اسمه. ودرويش، خرج من بايرويت، إلى فلسطين، هناك، وفي كل الجهات والطرق المؤدية إليها، أيضًا، سور شاهق شيّدته القصيدة.


نُشر في ملحق أعد في "ذكرى رحيله الثانية" في صحيفة القدس العربي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق