نصر جميل شعث
هذه مقدمة الجزء الأول من ملف أعدّه عن أصوات شعرية من فلسطين، والمفترض أن ينشر في عدد قادم من أعداد مجلة "نثر" العراقية السورية.
هذه مقدمة الجزء الأول من ملف أعدّه عن أصوات شعرية من فلسطين، والمفترض أن ينشر في عدد قادم من أعداد مجلة "نثر" العراقية السورية.
يتألّف هذا الجزء من البرنامج الوجداني من عشرة أصوات شعرية فلسطينية تنتمي إلى تربة الأرض المحفوظة كاملةً في التمني؛ لئلا تعلو تربة على تربة في الوطن المسروق، وإن كانت تفاحة "غزّة" بارزة في حنجرة آدم.
واختياري لهذه الأسماء لم يكن وليد مصادفة، مع ذلك هو لا يأتي من جهة تفضيلٍ ضيّق أبخلُ به على أصوات كثيرة تقع في فم المشهد الشعري الجديد، ولا تتواني عن تفعيل اقتراحاتها بخطوين داخل الذات وبخطوة ثالثة تعيد الذات إلى الوسط.
فعلى رغم أنه لم يكن، منذ القدم، ثمة ما يبشّر بنبأ المصالحة أو التوازن بين الداخل والخارج؛ يظلّ هنا قول حيّ أنّ وساطة الشعر كبيرة وعميقة لدرجة أنها تستوعب كلّ متناقضات الأنا والآخر، الوطن والمنفى، النهر والصحراء.. حيث الشعر هبة ميتافيزيقية و القضية إما أنها تميمةٌ أو حظّ عاشق تتخطفه الخسارة.
ومن هنا، يجوز لي أن أعترف بتلصّصي على الحبّ بأولوياته السابقة والأولى في الأصوات، ولكن بواسع معانيه في هذا القصائد المختارة. كذلك قراءتي تيمة الخصومة مع صورة الأنا بوصفها بيت الحبيب، وانعكاس الأنا الموازي وساحة الآخر. فها هي الشاعرة كوثر أبو هاني في قصيدة لها بعنوان "حالات مؤقتة لابدّ منها" تقول:
"أحيانًا أكرهني حتّى أحنّ إليّ وأتصالح مع الحبّ..." .
وعند الشاعرة أسماء عزايزة نرى تعرّض الصورة إلى عقابٍ، بنبرة "قلب ساخط" لا تني تولّد الحُلُمَ من الخراب، في لحظة منفعلة داخل مدار الحبّ في وجه من وجوه معانيه، ربما هو الوجع الذي يتحوّل نبرةً حادّة، مثلاً، لدى الشاعرة عزايزة في قصيدتها هذه المسماة "لا أحد، وصورتك":
لا أحد سيلتفت إليك إن صرختَ
بأعلى صوتك: "مرحى بالفصول المنتهية
مرحى بي أنا المتجدّد وأنا أضربُ رأس الماضي وأغمّيه".
أو حتى إن قلت: "سأتنازل عن دور البطل حتى لا تلتهمني النهاية،
وإن أجبرتُ على التفرج، سأقتل الراوي"!
إذًا، ثمّة إيقاع كبير في تدرجه وتنوعه؛ مشبعٌ بالحبّ وبالخصومة الواضحة في نصوص الشاعرات أكثر من الشعراء والذاهبة في تعرية وإيلام الأنا الموازي لدورة الأمل في الداخل والخارج معًا؛ الأمل في ولادة البطل ( الأنا) الخاصّ والوطني. ففي إبدال الشاهد السابق "الأنا" بـ "الآخر" المخاطب كغائب؛ نرى عَزْلاً لبهاء الصورة التي ترنّ في المجموع، حيث يقرّر المقطع السابق عقوبة لصاحب الصورة بإهمال صدى نرجسيته؛ وذلك إدراكًا لغاية التطهّر بإيقاع يسيل على ظلال حدائق كانت هناك.
وإذًا، تقدّم هذه المحاولة دعوة جديدة من أجل القراءة والإصغاء إلى إيقاعات الكتابات الشعرية الطازجة لدى شاعرات وشعراء كثيرًا ما أقارب قراءتي لهن ولهم بمخيلة شعرية أصوّرها بوضع إصبع الشاهد على اسم الوطن وإخفائه بظلّ التصويبة، لا إخفائه بالإصبع الذي هو من لحم ودم فائضين كإشارات في دورة الأسى التي تشحن ساعة الأمل برمل الصحراء في المقاربة الفلسطينية والعراقية التي تفضي بنا إلى هذه المفارقة المقوّاة بالجدل والفاعلة في مدار الخصومة البارزة عند الشاعرة أسماء عزايزة بين عنوان قصيدة (سيل) و (صحراء) المتن التي انتهت، مجازًا، لأنها أفرغت في الرأس، التي امتلأت بها حقيقةً، بفعل جرّ القصّاصين أكياس الرمال من الأفق إلى الرأس:
انتهت الصحراء؛
القصّاصون جرّوا أكياس الرمال وأفرغوها في رأسي.
أرشدوا الريح إليّ كي يلقّح الصبارُ أصابعي.
انتهت الصحراء وسالت...
وعند بشير شلش هذا وصفٌ آخر للعبء في "الأرض المؤقتة":
رأينا قمرَ الحصادِ مَسروقًا في متاعِ البدو الذينَ قايضوا السماءَ بالخيامِ
والصحراءَ بردهات الاسمنت وحملوا أيامهم بأكياسِ النومِ .
وأيضًا، سنقرأ في أثر الشاعر خالد جمعة شيئًا من مدار أو دِوار العشق داخل دورة الأرض في قصيدة "كيف تحتملُ روحكِ كلَّ هذا الجمال؟"، غير المنفصل عن دورة الأسى و ما تنتجه هذه الدورة من خربطة محتومة في أرض (مكان) و مواعيد (زمان) العاشق الذي يربط أحوال المرأة بالأرض من دون استخدام أي من أدوات التعاقب والترتيب. ففي الشاهد التالي تغيب "الفـــاء" التي تفيد الجمع مع سرعة الترتيب، ترتيب السبب والنتيجة:
تبكين
تخربِطُ الأرضُ دورَتَها، وتنسى الفصولُ مواعيدَها، الأشجارُ تفقدُ عصافيرَ ذاكِرَتِها، فيما الغيمُ يلملمُ قُطْنَهُ في علبةِ الريح، ويقفُ دمعكِ بين السماءِ والأمنيات.
ويختلف الأمر، في صورة ما، عند الشاعرة فاتنة الغُـرّه، في قصيدتها الطويلة "رقّ النوم" التي تصدر عن مخالطة فريدة بين الرؤيا وشبق اللحظة الجارفة، ولكن المنطوية في الوقت ذاته على تكوين رائع تعتريه نبرة تهّجد محفوفة بلذاذة تفعيل الأشياء في مدار كتابة تفتح باب العلاقة لتزاوج الرؤيا، بما هي حلُم بطيء العمل، مع نشوة التدفق من اللحظة الأولى، حيث دهشة الاصطدام بشيء سائل:
كانت الأرضُ تتمّ دورتها الأولى حينَ اصطَدَمَتْ ببركَةٍ راكِدَةٍ فانتفَضَ منها كتابُ النَّومِ، وكانَ أن جاءَ فيه..
فيما يَرى النَّائِمُ:
كانَت الوردَةُ تحبو باتجاه السَّماءِ رافِعةً تيجانها له تخْلع أرديتها واحِدًا تلو الآخر. تتلو صلاتَها للربيعِ. تسْتحمُّ بوهجِ اللحظَةِ الأولى.. وكانَ الشجَرُ حولها يسجد..
وكانَ ذلكَ شيئًا عظيما
(..............)
فيما يرى النائِمُ:
كَانَ الحلمُ يطفو على الملاءَةِ شلالَ حليْبٍ طَازجٍ بِرائِحَةٍ طَازجَةٍ ووَقتٍ طازجٍ تنبُتُ مِنْ خِلالِهِ أعْشَاشٌ مألوفَةٌ.. وكانت النتيجَةُ.. زهْرةً بيضَاءَ فَقَطْ.
وَكانَ ذلِكَ شيئًا عظيما.
وهكذا يكمن ويكبر السرّ تحت ظلال الإشارات، داخل دورة الشعر المضاء بروح كليّة لِـطيفها انعكاس على شفافيةٍ فضاحةٍ تحفظ، بدورها، الأثر؛ لأنها طبقة مالحة بين الوطن وظلّ الشاهد الذي يقدم شهادة غير مجروحة بإصبع مجروحة! الوطن الذي لم يخسره الشعراء ليربحوا الشعرَ؛ بل هم خسروا كرامة الوطن المأمول جدلاً في استعادتها، ونجدها، الآن، في شعر أبنائه!(أسماء عزايزة من حيفا - بشير شلش من عرّابة، قضاء الجليل- خالد جمعة من غزة - رائد وحش من فلسطيني دمشق - رجاء غانم من الرملة، دالية طه من رام الله - فاتنة الغرة من غزة - كوثر أبو هاني من غزة - ناصر رباح من غزة - ووليد الشيخ من رام الله)
على أنّ ما سيكرر ملامسته القارئ في أصوات الشاعرات والشعراء، هنا، هو تنوّع عمل القصائد، دائمًا، على جماليات فكّ ارتباط الشعر بالحنجرة وبالبهاء الذي ورّط وجوها وذوات داخل أصياف وصحارى جاء خروج جيل لاحق منها بوعي ومسؤولية إلى عبارة تفتح بلاغة الألم على إمكانيات فنّية تدشّن وتراكم غيابَ الصوت والضوء الباهظ، تراكم الغيابَ في حضور المجاز المتحالف مع أشياء في تجربة المكان وتجربة العيش لدى ذوات تعمقت أكثر في لحظاتها التي تستوعب جدلَ الحياة وتخلق رؤاها أبعد من سطح السؤال المباشر! حيث الشعر والوطن كانا وسيظلان يشكلان خطورتين على الشاعر/ة العاشقـ/ـة:
خطورة شرذمة القضية و تصفية اللازورد من فحواها، في عالم يُسرّب خياناته إلى الإنسانية في خطابات ذات واقعية سياسية تزوّق المشهد بكلام آسفٍ، وفي الوقت ذاته تعطّل منطق الحقائق؛ لتفعيل فروض براغماتية في سبيل تأكيدها كقياسات للتعامل مع وقائع جديدة، أي لا تقليدية: كالحرب التي تتقدّمُ السلامَ ولا تصنعه مثلما كانت ترعى ذلك في أدبيات القوة، إذا جاز لنا ذلك.
داخل هذا الفرن الجديد كانت تنتابُ الأشياءَ خطورةٌ ثانية استغلت مراحل لاهبة في مسلسل الوطن؛ استغلته كغطاء لإعدام أشياء طازجة هي كيانات أنطولوجية(الحجر يرمى نفسه هنا مثلاً)؛ إعدامها بذريعة التزام آدم وإلزامه بالصراخ حتى يرى الآخرون رقصة التفاحة. مع وجوب التذكير هنا، أن عدم وجود تفاحة في كل حنجرة بشرية راجع إلى تقدير ميتافيزيقي ما، لا ينفي عن كلّ المحرومين حقيقة أنهم يرقصون ألمًا في حدائق مسروقة أو مهجورة داهما نسيانُ مواعيد العشّاق، وداهما الخلط بين الشجر والبزات العسكرية، وجلس على مقاعدها الحجرية الغياب. وهكذا كادت الخطورة أن تهدّد الشعر بالموت في زمن الخطيئة، لولا قدرة سلَفت تمثلت في إفلات رموز الشعر الفلسطيني الكبيرة بصورة أو بأخرى؛ قدرة كان لها أن تتقوّى في تجارب لم تقرأها الرموز، ولا تـــُـقرأ بعمق اللحظةِ، الآن.
اللوحة: الفنان ماجد شلا، غزة