لن أخوض علاقة أبدية مع الشعر، ولا اكتب لاستعرض لغتي
وبلاغتها
تعايش ثقافتين تحت "الاحتلال"
تواطؤ واستهبال.. ولا بد للشعراء والكتاب الفلسطينيين أن
يكونوا على دراية بالأدب العبري
آن الأوان لاخراج الشعر من قوقعة "الحبر والورق" والاستفادة من
التكنولوجيا في خدمته
سنواجه مقصًا أكثر حدة في ظل المد الإسلامي الذي يجتاح البلدان
العربية
امتناع إسرائيل عن جعل فلسطينيي 48 مواطنين حقيقيين في دولتها أمر طبيعي!
رام الله- القدس الثقافي- قبل سنوات قليلة فازت بجائزة مؤسسة عبد المحسن القطان
للكاتب الشاب فانفتحت لها أولى البوابات باتجاه منهجة الكتابة.. هي اليوم لا تعرف مصيرها "الشعري"،
حيث لن تخوض علاقة أبدية مع الشعر إن نضب، أو نضبت هي.
ابنة دبورية عاشت في بيئة متعددة العناصر ومختلفة المفاهيم،
اكتسبتت من قريتها البساطة لكن حيفا كانت قبلة تعليمها وتثقيفها وصقلها..هي شاعرة
بالفطرة، لا تنظر إلى الواقع الأدبي الفلسطيني الحاضر بشيء من الإيجابية، فهي
لا تقوى إلا على رؤيته ضعيفًا ومترهلاً، ومع ذلك
تعتقد أن ثمة أسماء شابة لافتة في الأدب والشعر الفلسطيني في الوطن
والشتات، قد تؤسس لنص أفضل.
إنها
الشاعرة المبدعة، والإعلامية المتميزة، أسماء عزايزة التي خصت "القدس
الثقافي" بهذا الحوار الشامل والصريح، والذي تعتقد فيه أننا
كفلسطينيين عاجزون عن خلق "مشهد ثقافي" صحيّ ، لا بل أن الأدب يعيش في كهف
مظلم وضيّق، تحت الشارع واهتماماته، تحت الحياة اليومية، وتحت الجاري.
تدعو عزايزة إلى اخراج الشعر من أشكاله التقليدية- من الورق، وتوظيف الأدوات
الفنية والتكنولوجيا الحديثة في خدمته.
لا
تعتقد أن القصيدة كائن أنثوي، لكنها تنتصر للمرأة وقضاياها، قائلا إن ثمة
عالم مجرم بحق المرأة يعيش تحت الرأي العام والصحافة والحديث اليومي. وفيما
يلي نص الحوار:
بيئات متعددة العناصر
-أسماء من مواليد قرية
دبورية-قضاء الناصرة، أي بيئة عاشتها؟ وكيف أثرت البيئة في كونك شاعرة؟
البيئة التي نشأت فيها هي بيئة قروية، محافظة نوعًا ما،
وقد تكون صفتها الأبرز لديَ، والتي أعتبرها قاعدةً أساسية في نشأتي الأولى، هي
البساطة، تلك التي ما زالت حاضرة في القرية الفلسطينية. ولعلّها حاضرة، أيضًا، في
كتاباتي حتى الآن. قد لا يكون للبساطة في الشعر علاقة مباشرة مع المكان الأول
والنشأة، كما للدوافع الشعرية البحتة التي تفرضها الذائقة الشخصية. إلا أنها، دون
شك، تتشكل مع الطبيعة الأولى للإنسان، وقد يظلّ أثرها موجودًا بمعزل عن تكوينه
الاختياري عند البلوغ. انتقلت بعد أن أنهيت دراستي المدرسية مباشرةً إلى حيفا، حيث
درست وعملت هناك لمدة ثماني سنوات كانت كفيلة بتعليمي وتثقيفي وصقلي على النحو
الذي أنا عليه الآن. إذن، هي "بيئات"، وليست "بيئة" واحدة،
متعددة العناصر ومختلفة المفاهيم تؤثر على التكوين الشخصي والشعري.
الشعر فن ولا علاقة له
بالإعلام
-خضت تجربة إعلامية واسعة..
ما الذي أضافه الإعلام إلى شاعريتك؟ وهل يمكن للشعر أن يكون رسالة إعلامية؟ كيف
يستطيع الإعلامي الشاعر أن يفصل بين عمله كإعلامي وبين شاعريته؟
لا أعتقد البتة أن للإعلام علاقة بالشعر، فهما منطقتان
متباعدتان ذهنيًا وفكريًا وحسيًا. صحيح أن على الإعلامي أن يكون موهوبًا ومثقفًا
وأن يتمتع بلغة جيدة وقدرة على الإبداع في الكتابة أو الحوار أو الظهور وما شابه،
إلا أن الإعلام يظلّ مهنة قد تُكتسب جوانب عدة فيها عن طريق الدراسة والخبرة. أما
الشعر فيتطلب حساسيةً ولغةً ورؤية خاصة، قد لا يتمتع بها الإعلامي، والعكس صحيح،
أيضًا. ربما يحمل الشعر رسالةً ما، ولكني لا أسميها رسالة "إعلامية"،
وربما استبدل كلمة رسالة بـ"مقولة" أو "صورة" أو
"موقف" شخصيًا كان أو عامًا. لم يُطلب من الشعر في أي وقتٍ من الأوقات
أن يحمل رسالةً إعلامية. فالشاعر ليس مذيع أخبار أو محلل سياسي. الشعر فن؛ والفن
مساحة شخصية وحرّة، قد تتقاطع مع الشأن العام إن أراد صاحبها فقط.
يغريني العمل الإذاعي..
والمكتوب أب الصحافة
-ما هو الفرق في رأيك بين
العمل الصحفي المطبوع والمسموع والمرئي.. وأين وجدت نفسك أكثر ولماذا؟
أعتقد أن الفروقات بين المكتوب والمسموع والمرئي لها
علاقة بالأداء وليس بالموهبة الصحفية الصرفة. فالصحفي الجيّد هو ذاك المتضلع
بالحقل الذي يعمل به سواءً كان السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي أو غيره، والعارف
بأصول وآداب المهنة، بغض النظر عن وسيلة الإعلام التي يعمل بها. إلا أن ما يجعله
يتقن إحدى هذه الوسائط دون غيرها هي قدرات تفصيلية وليست جوهرية برأيي؛ فثمة
صحفيون متمرسون يعملون في الصحافة المكتوبة، غير أنهم لا يجيدون إجراء حوار متلفز
مثلا، فالأخير لا يتطلب معرفة وإلمامًا وموهبة في الحوار فحسب، بل يتطلب لباقة
وجرأة وحيوية وغيرها من الأمور التي لا يتطلبها الحوار المكتوب. بالنسبة لي
شخصيًا، وبعد عملي في الثلاثة وسائط، أعتقد أن لكل منها عالمه وسحره الخاص. يغريني
العمل الإذاعي كثيرًا؛ أعتقد أن استماع المتلقي للإذاعة فيه شيء من الصدق؛ الصوت
هناك مكشوف وشفاف، لا تزيفه كاميرا ولا ماكياج ولا مذيعة "جميلة". إلا
أنني لا أفضله على المكتوب الذي أعتبره أبًا للعمل الصحفي.
بوابة أولى نحو منهجة
الكتابة
-لقد نلت جائزة الشعر عن
مجموعتك الشعرية "ليوا"، في مسابقة مؤسسة عبد المحسن القطان للكاتب
الشاب في حقل الشعر. مع توصية بالنشر، وذلك لأنها كما وصفتها لجنة التحكيم
"مخطوطة مبدعة".. كيف تلقيت خبر فوزك بهذه الجائزة؟ وهل كان لها تأثير
في حياتك الشعرية؟
لعلّ كتابة "الشعر" بالنسبة لي كانت تنطوي على
المزاجية والعفوية؛ أي أنها لم تكن سائرة ضمن مشروع ممنهج ومدروس، من حيث الأسلوب واللغة
والفكرة. ولكني أعتبر هذه الجائزة بوابة أولى باتجاه منهجة الكتابة، ولا أعني بهذا
زجها في خانة الامتهان، أي أن أستيقظ صباحاً لأكتب "الشعر" وأن أكرس وقتي
وطاقتي له فقط. إنما المقصد هو محاولة التقاط ما هو مبعثر وتوجيهه بحيث يخدم رؤاي بشكل
أقل ارتباكاً وغموضاً. ولكن دون التخلي عن المزاجية في الكتابة، ودون إرغام نفسي على
أسلوب أو نهج أو وتيرة معينة. إن حصولي على هذه الجائزة يحملّني ربما عبئا ما، إحساساً
بالمسؤولية تجاه نفسي قبل كل شيء. لا أعرف مصيري "الشعري" في الحقيقة؛
لن أخوض علاقة أبدية مع الشعر إن نضب، أو نضبت أنا لسبب ما، لن أجبر نفسي على هذه
العلاقة.
القصيدة ليست كائنا أنثويا
-جاء في توصية لجنة التحكيم
"أن قصائد أسماء تنم عن موهبة يمكن أن تتضح أكثر وأكثر في كتابات قادمة،
وتقدم صوتاً أنثوياً فيه فرادة في شعرنا الفلسطيني والعربي، بعيداً عن فحولة
القصيدة وذكوريتها". الا تعتقدين أن القصيدة بحد ذاتها هي كائن أنثوي جميل ترفض
التصنيف الذكوري والأنثوي للأدب؟ هل حقا أن الأدب بشكل عام يمكن أن يجزأ إلى أثنوي
وذكوري؟
أولاً، أنا أرفض وصف القصيدة على أنها كائن أنثوي، إلا
أني لن أنفيه بتقديم وصف آخر، فالدخول في محاولة وصف الشعر كالدخول إلى غابة.
كذلك، لا أؤمن بتصنيف الأدب بالذكوري والأنثوي. وأعتقد أن لجنة التحكيم لم تقصد
هذا التصنيف، أيضًا. فالفحولة هي اصطلاح تاريخي وُصف به الشعر القوي والمكتمل كما
يوصف الرجل، وقد تم تجاوز أهميتها وشروطها التي وضعتها أدبيات النقد التقليدي.
القصيدة الحديثة برأيي، وهذا ما قصدته لجنة التحكيم، لا تنشغل بالنبرة العالية
والقوة الظاهرية في اللغة، إنما تستمد قوتها من فكرتها ونبرتها الخافتة والمتأملة،
وهي مسائل لم تُشغل القصيدة التي اتسمت بالفحولة.
لا أتعمد الغموض
وجاء في بيان لجنة التحكيم
في الجائزة المذكورة في وصف لمجموعتك:هذا الانفتاح والتعاطي مع التراث الأدبي
العالمي، واختلاط الأنا بحبيبها وعدوها في آن، وهذا الخيال اللغوي والعمق النفسي
الذي يحول المثل الشعبي إلى فلسفة وحكمة أبدية، حيث تلامس قصائدها القصيرة، الغموض
أحياناً، لكنها لا تنغلق على الفهم في صور غنية جداً، ولغة شديدة العصرية متماسكة
وسليمة. إنّ قصائدَ هذه المخطوطة مُتقَنةُ اللغة والإيقاع الدّاخليّ والصّورة، فهي
موجزة وكثيفة وتعتني بالتفاصيل الصّغيرة""..هل تعتقدين أن لجوءك إلى
الغموض أحيانا يصب في خدمة القصيدة والقارئ؟ متى تلجأين إلى الغموض؟
لا أتعمد اللجوء إلى الغموض، وأجدني لم أتعمد أسلوبًا
معينًا في الكتابة. أعتقد أن الغموض الظاهر في قصيدة ما هنا أو هناك، والذي أفضل
تسميته بالأسلوب المثير للتفكير والتفكيك، ما هو إلا وسيلة غير مقصودة لبناء
الصورة، وليس هدفًا. ولكنه يظل مفتوحًا على الفهم، في صورة عامة بسيطة وواضحة. أما
الغموض المقصود الذي يجعله الشاعر هدفًا في كتابة الشعر، فلا يروق لي. فأنا منحازة
للشعر البسيط والمفهوم، وإن كانت فكرته معقدة أو احتوى على صورٍ تثير التفكير
والتفكيك.
لا اكتب لاستعرض لغتي
- تقولين في قصيدة لك بعنوان "في وادي الصليب:
"أرتسي".."زو أرتسي"؛ أولادٌ يتدربون ..على نطقها.. وهم يفكون
أخشاب الصليب ويلقونها .. نحو الغرب.. "زو أرتسي"؛ ثم يتعلمون كتابتها
على الجدران.. وهم يدقون المسامير العوجاء، دون أن ينتبهوا.. في رؤوسهم. في قعر
البحر.. هناك أسماكٌ تأكل الأخشاب.. وتبيض ذاكرةً جديدة.. ألا تعقدين اقحام ألفاظ عبرية في القصيدة من
الممكن أن يكون على حساب متانة القصيدة وقوتها اللغوية؟
ما
الذي يحدد متانة القصيدة وقوتها؟ هل هي اللغة فقط؟ أظن أن القصيدة الحديثة، أو
قصيدتي على الأقل، تتعامل مع اللغة على أنها وسيلة لإيصال الفكرة، أنا لا أكتب
لأستعرض لغتي وبلاغتها وجمالها. صحيح أن على اللغة في الشعر أن تتسم بالقوة
والمتانة، ولكن ليس على حساب الفكرة. فتعبير "زو أرتسي"- هذه بلادي باللغة
العبرية جاء ليقدم تعبيرًا حيًا كما يستخدمه الإسرائيليون في الكتابة على جدرانهم
وتدريب أولادهم. هنا، قد يتخيلهم القارئ يقولونها كما وردت في القصيدة تمامًا:
"زو أرتسي". وإن نجحت القصيدة في أن تغني الصورة في خيال القارئ، وإن
استعانت باللغة العبرية، فهذا حسن. ولا أعتقد أنه يشوّه اللغة العربية فيها.
الشعر ليس علما دقيقا
هل تعتقدين أن الشاعر من الممكن أن يندم يوما على
عمل شعري له؟ أم أنه يتعلم من التجربة ويراكم من خبرته فلا يندم على شيء لأن الشعر
ليس نصا الهيا لا يقبل الخطأ؟
قد
يندم بعض الشعراء على أعمال شعرية سابقة، ولكني لا أرى أنّ ثمة ما يسمى بالخطأ
الشعري. قد يرى الشاعر في قصيدة قديمة، كتبها في صغره مثلا، ضعفًا ما في اللغة أو
الفكرة، قد لا يقنعه الأسلوب أو أي عنصر آخر، فليس هنالك قصيدة صحيحة أو غير
صحيحة، كما تقاس العلوم الدقيقة. بالمقابل، هنالك من يرى أن القصيدة، وبمعزل عن
تقييمها الآني، بنت لحظتها وتجربتها، فيعتبرها جزءًا من مشروعه، ولولا وجودها لما
وصل إلى ما وصل إليه.
تراجع فكري وممارستي تجاه المرأة
- في قصيدة بعنوان "غنائم الزيت" تقولين: في
الخبز، وجد الرجال.. ما يدفعهم إلى الأسرّة.. المغبرّة التي تَئن...سدىً راحوا
ينتظرون.. غنائم الزيت على أجساد ... زوجاتهم الرخوة.. فمن قبلُ.. نسيت النساء..
شهواتهن في الأفران.. ألا تعقدين أن المرأة في مجتمعنا باتت على قدم المساواة مع الرجل
في الحقوق والواجبات ولم يعد ينظر إليها بأنها مجرد متاع؟
أعتقد
العكس تمامًا، لا بل ومن خلال نظرة عامة إلى حالنا كمجتمع فلسطيني وعربي، أعتقد
أننا في تراجع فكري وممارستي مستمر في كل ما يتعلق بالمرأة ومكانتها وحقوقها. ثمة
عالم مجرم يعيش تحت الرأي العام والصحافة والحديث اليومي تُقتل فيه المرأة يوميًا،
لا تصلك أخباره ولا تصلني أنا أيضًا. ولكن أنظر إلى القصص القليلة التي تصلنا منه،
قتل على خلفية ما يسمى بشرف العائلة، اغتصاب، سفاح قربى، عنف الخ.. أنظر إلى
القوانين التي تحمي الرجل وتظلم المرأة في العالم العربي كقانون تزويج المغتصب
للمغتصبة. هل هذه مساواة برأيك؟ هل نحن في الطريق إليها؟ أعتقد أن المرأة تعاني من
العنصرية حتى في الدول "المتحضرة" والمتقدمة، أما نحن، فيبدو لي ضربًا
من العبث والوهم أن نناقش المسألة وأن نتفحص ما إن كانت لدينا مساواة بين الرجل
والمرأة أم لا.
"ليوا" والذاكرة السيئة
ديوانك يحمل عنوان" ليوا" وهي كلمة
يستخدمها صيادو مدينة عكا في لحظة انتشال الشباك من المياه، فيقولون "ليوا
شباك" وتقولين في قصيدة لك: في الحانة المجاورة.. ما زال الروّاد يقامرون
بها.. تلك الموزّعة على الكؤوس.. وتنانير النادلات.. إنها الأسماك.. بأنيابها
تعضُّ عقارب الساعة.. وتحمي الليل بالمتاريس.. المقوّاة بالثمالة..لماذا يحضر
البحر بما يحمله من مكنونات (وبخاصة الأسماك) بقوة في قصائدك؟
"ليوا"
هو عنوان إحدى القصائد في المجموعة، وهو أيضًا عنوان أحد أبوابها. استخدامها خدم
أولا فكرة الباب أو القصائد التي يضمها، ففي حين تحمل كلمة "ليوا" معنى
سفر الأسماك من الحياة إلى الموت، أو انتقالها من الماء إلى الهواء، يحمل الباب،
أيضًا، قصائد السفر؛ السفر الجسدي، الحسي، النفسي. بالإضافة إلى أنه خدم أيضًا
الفكرة العامة من المجموعة، التي وُظفت فيها "السمكة" أو
"الأسماك" كدلالة للذاكرة الفردية أو الجمعية. وهو استخدام رمزي شكّل ثيمة
رافقت قصائد كثيرة في المجموعة، انطلاقًا مما
يشاع عن الأسماك بأنها ذات ذاكرة قصيرة، هنا تتشكل الأسئلة عن هذه الذاكرة؛
فائدتها وضررها وأثرها على الحياة اليومية. أنا شخصيًا أعاني من ذاكرة سيئة، وظهرت
رمزية الأسماك في كتاباتي دون تخطيط مسبق أدلل بها على ذاكرتي الشخصية، إلا أن
رقعة هذه الرمزية اخذت بالاتساع لتشير إلى "الذاكرة" كمفهوم أعمق
وبأبعاد مختلفة، كالذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني ومحاولات القنص المستمرة التي
تمرّ بها.
الاجرام طبيعة بشرية
-في قصيدة
لك بعنوان "كوابيس" تقولين:أصدقائي مجرمو أحلام.. هناك، يتدرّبون على
رَمي.. قطعٍ آدمية .. في وجه العالم.. ما هو الخط الفاصل بالنسبة لك بين الانسانية
والإجرام؟
أعتقد أن الإجرام هو جزء من الطبيعة
البشرية الغريزية، وهو لا يتناقض مع إنسانية الإنسان، إلا أن الأخير، وبسبب عوامل
كثيرة وضعتها المنظومة البشرية والاجتماعية، وصل إلى ضرورة قمع جرمه عن طريق
القانون أو الأعراف أو الأخلاق أو غيرها.. وقد يظهر هذا "الجرم" على
أشكال عدة لا تقتصر فقط على القتل أو الدم، وقد يُضمر أيضًا، بحسب الدرجة التي
تعمل بها المصفاة الشخصية الآدمية للغريزة. وأعتقد أننا، وبسبب منظومتنا الأخلاقية
التي تجعلنا إنسانيين في حياتنا الواقعية، قد نواجه أحلامًا أو كوابيسًا لا تشبهنا
وقد نقتل فيها أحدًا. ربما أكون مخطئة، ولكن هذا التفكير جاء على شكل صورة شعرية
تصورنا للحظة عاديين بأحلامنا، مجرمين، ندمر ما نريد ونقتل ما نريد من هذا العالم،
الذي نُجبر أحيانًا على مجاراته في حياتنا اليومية.
واقع آخذ في التراجع
-تقولين: هل حصدنا شيئًا سوى آمالنا
المشوّهة؟..قلنا: "نأمل، ونتأمل، وعلى أمل، وكلنا أمل".. وصارت ألسنتنا
كقطع الليجو ناقصةً دونها.. هل جنينا شيئًا ونحن نهز فساتين نسائنا ملأى .. بالحقول
على أسرة بعيدة طافحة بالأفواه المفتوحة؟..ونحن نقامر بألعاب تفضي إلى "سلام" يسيل منه اللعاب؟ لا شيء يبدأ
هنا والآن.. إنها النهايات تهطل على رؤوسنا كالمطارق.. لا شيء يبدأ هنا والآن.. إنها
الذئاب تأخذ أدوار الجدات.. لماذا كل هذه النظرة التشاؤمية؟ هل تعتقدين أن الحلم
الفلسطيني يتراجع لحساب واقع مرير؟
ثمة
هوة كبيرة بين التشاؤم والواقعية. قد أكون متشائمة بعض الشيء، ولكن يظل التشاؤم أو
التفاؤل مسألة شخصية لا تتأثر كثيرًا بقراءة الواقع. هل يختلف اثنان على أننا نعيش
واقعًا صعبًا آخذًا بالتراجع؟ أشك في ذلك. لعلّنا نحقق انتصارات صغيرة هنا وهناك
على مستوى الحراك والوعي مثلا، إلا أنني لا أنظر إليها إلا ضمن حقبة تاريخية ممتدة
لم تسجل لنا سوى الخسارات المتلاحقة والآخذة بالتورّم. دائمًا أتمنى أن أكون
مخطئة، وأن تثمر غيرة وحرص وحراك الشباب فينا شيئًا. إلا أن هذا الوعي النظري
والفعلي، وهو يصطدم دومًا بحائط كبير بناه صناع السياسة في العالم، لا يسمن ولا
يغني من جوع. وأظن أننا، كعرب وليس كفلسطينيين فقط، نقف على عتبة جديدة مفخخة لمرحلة
أشد مضاضة وأقسى ألمًا من سابقاتها، تحت عنوان "الربيع العربي".
-في قصيدة لك بعنوان "جثة في رام الله"
تقولين: رام الله جافة وأنا سمكة.. عليّ أن أحوّل
غرفتي إلى رحم.. من أنا الآن؟ أصوتي الأحمق القديم يتحوّل إلى امرأة؟.. لو كنتُ رجلا! ما أجمل
أن أبول واقفةً على عاطفتي.. قبل أن أنام.. هل كنت حقا تتمنين لو كنت رجلا ولست
امرأة؟
لا أتمنى ذلك بالطبع. وليس كل ما يكتبه الشاعر هو حقيقة
يؤمن بها ويتمسك بها بأسنانه. قد يلقي الشاعر باعتراف يبدو كبيرًا وحقيقيًا، ولكنه
قد يجيء لضرورة شعرية تستدعيها الصورة أو الفكرة. جاءت أمنية أن أكون رجلا في سياق
تعامل الرجال والنساء مع العاطفة لا أكثر. لا أعتقد أن الرجال أقل عاطفة من النساء،
إلا أن لديهم قدرة أكبر في التحكم فيها أو تجنبها إن لزم الأمر. ربما وقفت في
القصيدة أمام لحظة تمنيت فيها أن أدوس على هذه "الورطة"؛ على عاطفتي، أو
أسخر منها، أو أقزمها.
مسألة محسوبة .. لا مواطنة للعرب
في اسرائيل
-تقولين في قصيد لك: سقطتْ
مدينةٌ في فمي... عمالُ أثيوبيا يشقون طرقاً وسيعةً .. على لساني.. ويشيدون ..
بسوادِهم المسلوخِ..هل تعتقدين أن اسرائيل يمكن أن تكون دولة لكل مواطنيها بما في
ذلك عمال اثيوبيا والفلسطينيين في الداخل؟
لعلّ مسألة المواطنة في الدولة الصهيونية غدت مسألة
محسومة وواضحة المعالم. ومن الغباء أن يحاول المرء مقارعتها أو مناقشتها أو وضع
نظريات تجعل منها أمرًا واقعيًا. إن ما يضحكني ويحزنني في هذه المسألة هو أننا
نصور أنفسنا بأننا معنيون بإحقاق مواطنتنا الكاملة في الدولة اليهودية، وأن
الأخيرة هي التي تقف بعنصريتها سدًا منيعًا أمام هذا الحق. هذا مضحك! فأنا أرى أن
امتناع إسرائيل عن جعلنا مواطنين حقيقيين في دولتها هو أمر طبيعي، غير مفاجئ وغير
مستفز. وجودها هو المستفز، إقامتها على أنقاض قرانا وأجسادنا هو الأمر غير
الطبيعي. وعليه، فمن الحري بنا أن نرفض هذا المبدأ أصلا، أن نرفض هذا الاستجداء.
قد يجد البعض أن ما أقوله مناقضًا للواقع، ومُضرًا لحياة فلسطينيي الداخل اليومية،
إلا أنني لا أرى مانعًا من جعله إيمانًا راسخًا في أذهاننا.
الوقت غول!
- تقولين: الغولُ الذي
صنعَته جدتي برفقٍ.. ورافقني كلّ ليلةٍ إلى غرفة نومي.. أصبح الآن رجلا بالغًا..
هو نفسه الذي يرهِّلُ الآن بيديه.. جبهة أمي البيضاء.. ويبخِّرُ الزيت في راحتيها..
أمي لم تصنع غيلانًا جددًا لنا.. وجدتي لم تفعل هي الأخرى.. بعد أن رقدت مُطفأةً
في سريرها.. إلا أن غولها الذي صنعته.. ينجب أبناءً وراء الباب.. الغول كيان من
نسج الوهم صنعه الشرقيون لتخويف ابنائهم وهو صغار..بالنسبة للمرأة ما هو الغول
يعايشها بلا نهاية؟ وكيف لها أن تتخلص من وهم وجود الغول أصلا؟
الغول في هذا النص هو استعارة للوقت، فالوقت يلاحقنا
ويخيفنا عندما نشعر بقرب نضبه، يقتل يومنا، ويسبقنا في كل طريق نسلكه. قد يكون
"الغول" أو أي كائن غامض هو ما يخيف الإنسان عند صغره، هو الذي لا تقلقه
هموم الحياة والمسؤولية والأصدقاء والعمل والحب الخ.. إلا أنه، وعند بلوغه، سيكتشف
أن غوله هو أمر آخر في الحياة. والوقت هو أحد غيلاني، يخيفني حقًا. حتى وإن توقفت
جدتي وأمي عن الحديث عنه، فهو لا يزال على قيد الحياة في زاوية حياتي الشخصية- في
غرفتي، وهو يعني لي ما يعني لي الآن، ليس الغول أشعث الشعر حاد الأنياب، بل الوقت
المتربص بي دومًا.
نحو إغناء المشهد الثقافي
الفلسطيني
- أنت تحتلين حاليا منصب
مديرة متحف محمود درويش-حديقة البروة...ما الذي الذي استطاعت ان تقدمه مؤسسة محمود
درويش في الحفاظ على التراث الغني للشاعر الراحل؟
أعتقد أن مؤسسة محمود درويش، التي وضعت نصب عينها، هدف
الحفاظ على تراث محمود درويش الشعري والفكري والإنساني، وتوارثه للأجيال القادمة،
ما زالت في بداية الطريق. وتأسيس "متحف محمود درويش" هو خطوة عظيمة
وبالغة الأهمية في هذا الطريق. إن الاختبار الحقيقي الذي تقف فيه المؤسسة، لا
ينحصر في الحفاظ على هذا الموروث الشعري فحسب، بل في كيفية جعله تراثًا حيًا يسهم
في إغناء المشهد الثقافي الفلسطيني الحاضر. وهنا، جاءت تركيبة بناء متحف محمود
درويش وحديقة البروة لتخدم هذه الرؤية. فبالإضافة لضريح الشاعر، والمتحف الذي
يحتوي على مقتنياته الشخصية، جوائزه، مخطوطاته، مكتبه الخ.. تحتوي الحديقة على
مسرح خارجي مكشوف، مسرح مغلق، ومنبر حر، وهي مساحات تؤكد على رغبة مؤسسة محمود
درويش في أن تكون مبادرة عضوية في تطوير المشهد الثقافي الفلسطيني بعامة والشعري
بخاصة، وذلك من خلال المشاريع والأنشطة الجديدة والمغايرة التي ستبدأ في تنظيمها
في القريب.
أسماء تدعو إلى التفاؤل
-ما هو
تقييمك للتجارب الأدبية الفلسطينية الشابة؟ وما هو الفرق بينها وبين تجارب
السابقين؟
من الإجحاف بحق تجارب الكتاب الفلسطينيين الشباب أن نقيمها
بجملة عامة. لدي اطلاع لا بأس به على التجارب الشعرية على وجه الخصوص، لا أستطيع
تقييمها، ولست أنا من يفعل ذلك، ولكن لدي بالطبع رأي في بعض التجارب الشعرية
الشابة، وهي قليلة جدًا للأسف. ثمة "شعر" مهول يهطل علينا يوميًا عبر
الانترنت. هل نسميه شعرًا؟ أشك بأننا نحن الشباب الفلسطيني مكتفون بما ننتج
وأسسنا تراثنا الخاص. ولكني، مع ذلك، أعتقد أن ثمة أسماء شابة لافتة في الأدب
والشعر الفلسطيني في الوطن والشتات، قد تؤسس برأيي لنص أفضل، ذي نبرة مميزة ومتأملة
ومنخفضة ومنشغلة بتفاصيلها وخاصّها، ولكن دون إهمال عامها. وهذا ما يميّز هذه
التجارب عن تجارب سابقة كان في معظمها الهم السياسي العام والصرخة هي شغلها. إنها
أسماء تدعو إلى التفاؤل. ولكن السؤال من يقرأ نصنا؟ أحيانًا أخال أننا نحن فقط من
يقرأنا. والنص، إن لم يمتزج بالفعل الجدلي الحقيقي بين الكتابة والتلقي/ القراءة،
لا قيمة له.
أعمل في هذه الأثناء على إعداد ملف عن شعراء فلسطينيين شباب
من الوطن والشتات في موقع قديتا الثقافي السياسي، الذي أحرر الشعر فيه، والذي
سيحتوي على نصوص شعرية لاثني عشر شاعرًا وشاعرة فلسطينية. أعتقد أنه سيعطي القارئ
نماذج حيّة لتجارب شعرية لافتة في المشهد الشعري الفلسطيني الحديث.
تبكيني أشياء كثيرة
- ما الذي يضحكك وما الذي يبكيك كشاعرة؟
ليس للضحك والبكاء والمشاعر الأخرى علاقة بكوني أكتب
الشعر، هي مشاعر إنسانية صرفة. أعتقد أن الضحك أمر ضروري في حياتنا اليومية، إلا
أن حدوثه غالبًا ما يكون عابرًا وقد يبدو بعيدًا بعض الشيء، فنحن نعيش حياةً سريعة
وضيّقة، طافحة بالمسؤوليات والعمل، والأحداث السياسية المستفزة، والضحايا والظلم.
فلا يستطيع الإنسان الواقعي ثاقب النظر ووسيعه، غير القانع بطبيعة الحياة التي
فرضتها عليه الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحلية والعالمية، أن يكون
إنسانًا فرحًا حقًا. في الأمر ضرب من البلاهة! أما البكاء فلا تستطيع الطبيعة
البشرية إليه بالخداع أو التزييف كالضحك. تبكيني أشياء كثيرة، معظمها شخصية.
- ما هو حلمك الذي لم يتحقق بعد؟
لا أنظر في الأفق إلى حلم واحد وواضح، هي أحلام صغيرة
وقريبة قابلة للتحقيق وقريبة من الواقع. لا أحلم بأشياء أكبر من أن يحملها واقعي،
وإلا أصبت بالخيبة. وقد أسمي هذه الأحلام مشاريع. لدي مشاريع في السفر والتنقل
والتجريب وكتابة الشعر وتقديمه بوسائط تختلف عن الكتاب المطبوع، وأعمل على تحقيقها
في حاضري. أما تلك التي تبدو خيالية أو بعيدة، فلا أجعل منها هاجسًا يوميًا لا
فائدة منه ولا ثمرة.
يستهويني الشعر الجميل
-
ما الذي يستهويك للقراءة، وما هي آلية اختياراتك للقراءة؟
يستهويني الشعر الجميل،
بمعزل عن مكان ووقت ولادته، قد أعجب بتشاوسر، شاعر القرن الثالث عشر، وقد أعجب
بشاعر عربي شاب. كذلك، كل ما يرتبط بالنقد الأدبي والتفكيك والفلسفة. أحبّ قراءة
تجارب روائية معينة، وأعتقد أنها منطقة أكثر اتساعًا من الشعر؛ فهي تستوعب كل
أشكال المعرفة والثقافة والتجارب الحياتية. ولكن ليست لديّ آلية معينة في اختيار
قراءاتي؛ لا أحب تحديدها في مجال معين، فقد تكون أحيانًا رهن المزاج والرغبة
والميول اللحظي. ولكني قد أمر على مزاج يروق لي فيه قراءة كاتب أو شاعر ما لفترة
زمنية معينة.
مشاريع شعرية
- ما
هو جديدك؟ وهل لك أن تطلعينا على خططك المستقبلية؟
لدي أفكار لمشاريع شعرية، بعضها ما زال قيد الكتابة والأخرى أنوي
البدء فيها في القريب. المشروع الأول يتمثل في تقديم الشعر بوسائط حديثة قد تكون
أقرب من المتلقي العربي، الذي يتصفح الانترنت واليوتيوب والفيسبوك، غير أنه لا
يقتني كتابًا لشاعر شاب غير معروف. أعتقد أنه آن الأوان لأن يخرج الشعر من أشكاله
التقليدية- من الورق. لعل جميع أنواع الفنون استعملت الأدوات الفنية والتكنولوجيا
الحديثة في خدمتها وخدمة تطورها وحداثتها. أما الشعر، فلم يخرج من قوقعته (من
الحبر والورق). انطلاقًا من هذه النقطة، سأقوم قريبًا بتقديم مشروع شعري مرئي
ومسموع، أتعاون فيه مع الفنان شادي زقطان، وسيجده المتلقي على صفحات الانترنت. كما
سيقدّم المشروع، أيضًا، على شكل عرض حي. من ناحية أخرى، أعمل على كتابة مجموعتي
الشعرية الثانية، أما تفاصيلها وموضوعاتها فما زالت قيد العمل.
- من تعتقدين الأكثر تأثيرًا في الأدب العربي المعاصر؟
لم يعد يعنيني
الحديث عن "المشهد الأدبي" العربي والأسماء التي تبنيه بمعزل عن جمهور
القراء. أي تأثير سيحمله هذا المشهد إن ظل "مشهدًا" بعين صنّاعه
والمهتمين القريبين منه والكتاب أنفسهم فقط، أولئك الذين ينتمون إلى ثقافة الخطاب النقدي،
كما وصفهم ألفين جولدنر، هم المنتج والمستهلك في آن؟ إن هؤلاء يصنعون أثراً على المشهد نفسه وعلى صورته بعيونهم، فهذا كمن يغير
في شكل غرفته أو صالون بيته. علينا أن نسأل ما أو من يؤثر على القارئ العادي. وأعتقد
أن الأخير، وإن كانت نسبة القراء في العالم العربي ضئيلة، يتأثر بأعمال معينة وصلت
إليه بطرق شتى. ولكنه، للأسف، قد لا ينكشف على تجارب شعرية أو أدبية لا تقل أهمية
من تلك الموجودة على السطح. ثمة من تركوا بصمة حقيقية في الأدب العربي المعاصر
بمعزل عن أهميتهم بالنسبة لي أو عن مكانتهم في ذائقتي، كأدباء المهجر وشعراء مجلة
"شعر" وشعراء المقاومة الفلسطينيين وغيرهم. ولكني، قد أتأثر، أيضًا،
بتجارب مغمورة أو خفية، شاءت عوامل عدة ألا تصل أو تُقدّم للعامة.
بين
المعرفة والوقوع في "فخ التطبيع"
- العلاقة بين المثقفين والأدباء الإسرائيليين
ونظرائهم من فلسطينيي داخل الخط الاخضر.. كيف تقيمينها وفي اي اطار تضعينها؟
ليس في المعرفة عيب أو خطأ. أعتقد أن علينا ككتاب وشعراء
فلسطينيين أن نكون على دراية بالمشهد الأدبي العبري؛ وقد نناقش أو نحاور أصحابه إن
لزم الأمر، بحيث لا يضعنا ذلك في فخاخ "التطبيع الثقافي". أعتقد أن
المشهد الثقافي الفلسطيني في الداخل محفوفًا بمطبات العلاقات الانفصامية بين
المشهد "الفلسطيني" الصرف وبين المشهد "الإسرائيلي العربي"
المتراقص والمزيف، وهي مطبات ليست سهلة وأحيانًا ليست واضحة تمامًا. ربما تكون
واضحة حين يتعلق الأمر بالمؤسسة الإسرائيلية الرسمية المتمثلة في الغالب بوزارة
الثقافة الإسرائيلية، قد يعتبر البعض دخولها في المشهد الثقافي الفلسطيني أو جلبه
إلى حضنها حقًا، ولكني أعتبره صناعة قذرة لمفهوم الديمقراطية الثقافية وسلخًا
خبيثًا للمثقف الفلسطيني عن ثقافته الفلسطينية. أما فيما يتعلق بمؤسسات ثقافية
إسرائيلية غير رسمية أو بمثقفين أفراد "يساريين"، فتتعقد المعادلة
والمعايير أكثر. إن جاءت العلاقة في سبيل المعرفة والتعريف فقد تكون شرعية. أما في
سبيل تعايش الثقافتين تحت "الاحتلال"، فأعتبر ذلك تواطؤا واستهبالا.
مناخ من
الضبابية
- برأيك كيف يمكن مواجهة
حرب التهويد الثقافية التي تشن على أهلنا في فلسطين المحتلة
عام 48؟
لعلّ معادلة التطبيع الثقافي مع إسرائيل لدى
المثقفين العرب بشكل عام، وإن اخترقها، أيديولوجيًا أو من باب المنفعة، بعض
الأفراد أو المؤسسات، تبقى واضحة المعالم. أما في أوساط العرب الفلسطينيين في
المناطق المحتلة عام 1948، فيسود هذه المعادلة مناخ من الضبابية؛ بحيث تشكّل معهم،
من المنطلق السلوكي الممارساتي أو من المنطلق الفكري السياسي الثقافي، سبيكتروم
واسعًا يستوعب صيغ متعددة لأشكال التطبيع. ولكني لا أعتقد أننا نستطيع "بضربة
رجل واحد" أن نواجه هذه الحرب. هذا مستحيل وغير واقعي أمام التعدد الفكري
والسياسي لدينا كشعب فلسطيني وأمام التركيبة المعقدة لمفهوم التطبيع وأشكاله،
وأمام ضعف المؤسسة السياسية والثقافية الرسمية التي قد تضع خطوطًا واضحة في معادلة
التطبيع. وعليه، أظننا نستطيع مواجهتها كأفراد مثقفين، من خلال الحفاظ على نقاء
المشهد الذي نصنعه، يضاف إلى ذلك مجهود بعض المؤسسات كـ "الحملة الفلسطينية
للمقاطعة الثقافية والأكاديمية لإسرائيل" في نشر الوعي حول هذه المسألة
ومخاطر الوقوع في شركها.
لا شروط بيئية للابداع
- هل تعتقدين أن البيئة المجتمعية ملائمة لميلاد ابداعات أدبية
نسوية فلسطينية؟
لا
أعتقد أن للإبداع شروط بيئية معينة، قد يولد في أكثر الحضارات تخلفًا وفي أكثرها
تقدمًا. قد يولد في أشدها فقرًا وفي أشدها ثراءً. ربما تؤثر البيئة المجتمعية على
جوانب أخرى كالاهتمام بحالة إبداعية معينًا، رفعها أو طمسها، ولكن ليس على وجودها.
ثمة للأسف تقاليد وعادات مجتمعية في بعض المناطق الفلسطينية قد تقف في وجه المرأة
المغنية أو الراقصة أو الممثلة. ولكن، بشكل عام، أظن أنّ المجتمع، حتى في المناطق
التي تبدو أقل مدنية وتحضرًا، منفتح أمام الفن والثقافة، مستوعب وعطش لها، بغض
النظر عن جنس المبدع. ثمة نساء مبدعات قد تطمس إبداعهن الخانة التي يضعها فيها
المجتمع من خلال نمطية وروتين الحياة اليومية، دون أن يشعرن، أن تكون ربة بيت وأم
وخادمة فقط. وفي أحايين كثيرة، قد تقبل المرأة هذا الدور دون أن تحاول مقاومته، أو
على الأقل إحداث توازن بينه وبين إبداعها.
مقص
الرقابة أخطر من "التابوهات"
-هناك
من يعتقد أن الكتابة الأدبية تحددها خطوط حمراء أدبية ممثلة تحديدا بالجنس
والدين.. هل تتوافقين مع هذا الرأي؟
أعتقد
أن الأدب العربي استطاع أن يتخطى هذه الخطوط، فكتب عن الجنس والدين، وقد نجد كاتبات
عربيات تجاوزن هذه "التابوهات" وكسرنها. ولكن الإشكال في هذه المسألة هي
الرقابة الرسمية في بعض الدول في الوطن العربي. ثمة كتاب وشعراء عرب عانوا من مقص
الرقابة، اعتقلوا واعتقلت دواوينهم وكتبهم. هذا أمر في غاية الخطورة وعلى الكتاب
العرب مواجهته بشجاعة. وأظننا سنواجه مقصًا أكثر حدة في المستقبل، في ظل المد
الإسلامي والأصولي الذي يجتاح البلدان العربية، والذي بالضرورة سيقتل الحريات
الشخصية والاختلاف والعلمانية.
واقع
أدبي مترهل وضعيف
- ما
هو تقييمك للواقع الأدبي الفلسطيني الحالي؟
أتمنى أحيانًا أن أرى إلى الواقع الأدبي
الفلسطيني الحاضر بشيء من الإيجابية، لا أقوى إلا على رؤيته ضعيفًا ومترهلاً. لا
شك أن العالم كله يميل إلى "الكسل" في التفكير؛ استهلاك الفن التجاري
الذي لا يتطلب منك تفكيرًا حتى تفهمه. في المقابل، هذا ما تصنعه الآلة الإعلامية
الفلسطينية، فالأدب لا يبيع، والمواضيع العميقة لا تبيع. هذا ما يجعل الأدب يعيش
في كهف مظلم وضيّق، تحت الشارع واهتماماته، تحت الحياة اليومية، وتحت الجاري.
تثيرني هنا تجربة الشاعر محمود درويش، كيف لشاعر أن يحظى بجمهور كبير كجمهور كرة
القدم. هذه معجزة في زمننا الحاضر. وهي ظاهرة نادرة وسط مجتمع لا يأبه لعالم
الأدب. بالنسبة للأدب، على مستوى كم الإنتاج، فأراه رديئًا، نستطيع أن نصل إلى هذه
النتيجة إن ألقينا نظرة سريعة على عدد الكتاب والشعراء الفلسطينيين الحقيقيين
المؤثرين والمكرسين. هنالك تجارب شابة مبشرة قد تقدم شيئًا في المستقبل. ولكن المشهد
الشعبي الطاغي، الذي يطمرها ويطمر التجارب المكرسة القليلة أيضًا، هو مشهد عصر
الاستهلاك والسطح السريع والعابر. أما على مستوى الممارسة الثقافية وخلق حيّز
ثقافي جامع ونقدي، فيبدو لي المشهد أكثر ضحالة؛ ماذا يعني أننا لا نملك مجلة
ثقافية مطبوعة واحدة؟ ماذا يعني غياب النقد الأدبي والشعري في فلسطين غيابًا
واضحًا؟ ماذا يعني أننا أفشلنا بأيدينا مشروع القدس عاصمة الثقافة العربية؟ هذه
عينات قليلة لا أجوبة لها سوى أننا عاجزون عن خلق "مشهد ثقافي" صحيّ
أصلا، وهي التي تجعل من حراكنا حراكًا مترهلا، اللهم إلا من تحركات بعض المثقفين
هنا وهناك، والذين لا يتجاوز تعدادهم أصابع اليد الواحدة.
رام
الله..مدينة التنوع العجيب
-
انت تعيشين في رام الله.. ما هي علاقتك بهذه المدينة؟
بداية
علاقتي بمدينة رام الله تمثلت بزيارات متباعدة كنت أقوم بها للقاء الأصدقاء أو
حضور بعض الأنشطة الثقافية هنا وهناك. ولا شك في أن الألفة التي نشأت آنذاك معها،
لدي ولدى آخرين من فلسطينيي 48، نشأت بدافع حاجتنا لمفهوم المدينة الفلسطينية.
فالمدن الفلسطينية في الداخل هي قرى كبيرة، تفتقر إلى مظاهر المدينة السياسية
والثقافية والاجتماعية، أما المدن "المختلطة" كحيفا ويافا وعكا تخوض
حربًا عشواء يومية مع الإسرائيلي. بالمقابل، بدت لنا رام الله مدينة فلسطينية
حقيقية. إلا أن العيش فيها هو المعلم والكاشف الأول، وجدت فيها ما لم أجده في
زياراتي العابرة والمتباعدة. فما يبدو على السطح لا يلغي البتة كونها مدينة محتلة،
ثم إن ثمة تجاذبات كثيرة تجعل منها منطقة متوترة في الباطن، هي في معظمها تجاذبات
سياسية واجتماعية خلقها التنوع والتعدد العجيب في المدينة. ولكني رغم ذلك، أعتقد
أنها أضافت الكثير لتجربتي الحياتية، من خلال معرفتي بالأشخاص واحتكاكي بالمجتمع
والمثقفين. وجعلتني أنكشف عن قرب على عينة من الظروف السياسية والاجتماعية
والاقتصادية التي تعيشها الضفة الغربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق